بين الطمأنينة والسكينة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ المقدمة: الْحَمْدُ للهِ الْوَاصِلِ الْحَمْدَ بِالنِّعَمِ وَالنِّعَمَ بِالشُّكْرِ، نَحْمَدُهُ عَلَى
آلاَئِهِ كَمَا نَحْمَدُهُ عَلَى بَلاَئِهِ، وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى هذِهِ النُّفُوسِ الْبِطَاءِ عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ، السِّرَاعِ إِلَى مَا نُهِيَتْ عَنْهُ/ خ 114
(وقال أمير المؤمنين عليه السلام في حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)… اللَّهُمَّ اجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي بَرْدِ الْعَيشِ، وَقَرَارِ النِّعْمَةِ ، وَمُنَى الشَّهَوَاتِ ، وَأَهْوَاءِ اللَّذَّاتِ. وَرَخَاءِ الدَّعَةِ وَمُنْتَهَى الْطُّمَأْنِينَةِ……/خ72
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ:
قال الله ربي جل جلاله :
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) الفجر
النفس المطمئنة هي التي تسكن إلى ربها و ترضى بما رضي به فترى نفسها عبدا لا يملك لنفسه شيئا من خير أو شر أو نفع أو ضر و يرى الدنيا دار مجاز و ما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع و ضر ابتلاء و امتحانا إلهيا فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان و إكثار الفساد و العلو و الاستكبار، و لا يوقعه الفقر و الفقدان في الكفر و ترك الشكر بل هو في مستقر من العبودية لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط.
و توصيفها بالراضية لأن اطمئنانها إلى ربها يستلزم رضاها بما قدر و قضى.
و إذا رضي العبد من ربه رضي الرب منه إذ لا يسخطه تعالى إلا خروج العبد من زي العبودية فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضى ربه و لذا عقب قوله «راضية» بقوله «مرضية».
“فادخلي في عبادي” … فيه دلالة على أن صاحب النفس المطمئنة في زمرة عباد الله حائز مقام العبودية.
«و ادخلي جنتي» تعيين لمستقرها، و في إضافة الجنة إلى ضمير التكلم تشريف خاص، و لا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنة إلى نفسه تعالى و تقدس إلا في هذه الآية.
حقيقة الطمأنينة:
الطمأنينة ..أصلها سكينة , لكنها درجة تزيد عنها لأنها مُدعَّمة بأمن لا يكون إلا من يقين تام.
فهي كمال للسكينة ونهاية لها, ومقام فوق مقامها.
وهي منزلة عظيمة من منازل الإيمان ودرجات أهل التوحيد والتي هي آخر المقامات والمراتب الإنسانية والغرض هو الوصول إلى هذه المنزلة حتى تتمكن من الوصول إلى مقام الرجوع إلى الرب (إرجعي إلى ربك) [الفجر: 28] وهذه هي مرتبة الاطمئنان التي من آثارها وخصوصياتها هو مرتبة الرضا والتسليم.
النفس المطمئنة يعني التي في مرتبة الإيمان لا تزال تستمر في صراط العبودية حتى تصل على حد الاطمئنان .
وقال عليه السلام في وصف السالك الطريق إلى الله سبحانه:
….. وَثَبَتَتْ رِجْلاَهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الْأَمْنِ وَالرَّاحَةِ، بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ، وَأَرْضَى رَبَّهُ….
والنفس الإنسانية تتخيل لنفسها وللماديات استقلالاً وتتصور نفسها أنها هي المالكة. (وفي الحقيقة ليس لنفسه إلا القلق والاضطراب) حتى يصل إلى المرتبة التي يتيقن بأن المالك هو الله فقط، المستقل هو الله فقط، فهو وجميع مراتب الوجود مرتبطين به، فإذا استقر على هذا الرأي واطمأن إليه عندئذ لا خوف ولا حزن عليه لأنه قد اصبح من أولياء الله (الا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). [يونس: 62]
بينها وبين السكينة :
والسكينة صولة لا تكون إلا بغتة , تورث الخمود أحيانا , أما الطمأنينة فهي سكون دائم.
وصَوْلة السكينة لا تكون إلا بغتة , فهي أمر يتجدد , ولذلك ما جآءت في القرآن الكريم إلا بلفظ ” الإنزال” في أوقات خوف القلوب كما:
في قصة الغار قال الله ربي سبحانه :
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) التوبة
وفي قصة فتح مكة قال الله ربي سبحانه :
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) الفتح
وقال سبحانه :
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) الفتح
وغلبة حمية الجاهلية على قلوب الكفار قال الله ربي سبحانه :
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) الفتح
الطمأنينة أمن دائم :
وهي أمن دائم ثابت يصاحب أُنساً , ولا تفارق صاحبها أبدا .
ومنها طمأنينة القلوب بأن لا ينسى ربه ولا يغفل عنه لحظة………. الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الرعد
وهي كذلك باعتبار طمأنينتها إلى ربها؛ بعبوديته ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به، والسكون إليه.
فالطمأنينة إلى الله سبحانه حقيقة، ترد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه، وترد قلبه الشارد إليه، حتى كأنه جالس بين يديه؛ فتسري تلك الطمأنينة في نفسه، وقلبه وقواه الظاهرة والباطنة، ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقية إلا بالله وبذكره…..
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلى نَفْسِي وَأَنْفُسِكُمْ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ!/خ 183
طرقها:
الأساس في جميع الارتياضات النفسانية على تنوعها و تشتتها الخارج عن الإحصاء هو مخالفة النفس في الجملة، و ليس إلا لأن انكباب النفس على مطاوعة هواها يصرفها عن الاشتغال بنفسها.
لا ينبغي لنا أن نشك في أن هذه المشغلة النفسية ليست سنة مبتدعة في زماننا هذا، فالنقل و الاعتبار يدلان على أنها كانت من السنن الدائرة بين الناس، كلما رجعنا القهقرى فهي من السنن اللازمة للإنسانية إلى أقدم عهودها التي نزلت في هذه الأرض على ما نحسب.