الأخذ بمتاع الدنيا المحلَّل
بسم الله الرحمن الرحيم …. من أهم معالم شخصية الأنبياء (ع)، التواضع لخالقهم عز وجل وللناس أجمعين. فالتكبر والتجبر أمران محرمان، لا يجوزان من كل عبد
صالح، وكل أنواع التكبر محرمة ، سواء كانت على الخالق عز وجل، أو كانت على العبادة، أو على الخلق.
هل يجوز التنعم بمتاع الدنيا :
ما جاء في هذه المقدمة جلي، لا يحتاج الى زيادة بيان، أو قوي برهان، ولكن السؤال الذي يُطرح في مثل هذه الحال، ويحتاج الى وضوح المقال، هو:
هل التنعم بمتاع الدنيا يعتبر من التكبر المحرم ؟!
وهل لبس الجميل، وأكل الطيِّب، والزينة المجمِّلة، والطيب الجذاب، والسكن المريح من التكبر المحرم ؟!.
وهل اختيـار بعض أنواع الطعام أو اللباس أو المركـوب، بنية أن يكون جميلا أو لائقا أو مريحا….يعتبر من التكبر أيضا؟!.
والجواب: ان هذه الأمور ليست محرمة في ذاتها، ولمجرد القيام بها… بل هي من الحلال الطيّب الذي دعا اليه الاسلام، وندب الى بعضه، ومارسه أنبياء الله، سلام الله عليهم أجمعين.
إنما المحرم من الأصناف المتقدمة، طريقة التناول والممارسة، حيث تكون طريقة اللباس أو الطعام سيئة أومسيئة !
وكذلك الأمر فيما يتعلق بالمركوب والخادم والسكن.
فلا يجوز، وبمجرد أن نرى مؤمنا مثلا، قد أظهر نعمة الله عليه، فاشترى سيارة جميلة، أو مسكنا واسعا… لا يجوز اتهامه بالتجبر والتكبر، بل من حرّم زينة الله التي أخرجها لعباده، والطيبات من الرزق التي لو استعملت خالصة لوجه الله الكريم، كما استعملها الأنبياء والصالحون، سيكون فيها الأجر يوم القيامة، ان شاء الله تعالى ؟
ولا يجوز لنا نتيجة الغيرة أو الحسد، أن نحرّم ما أحلّ الله لنا، نبتغي مرضاة أنفسنا، والمهم أن يكون كلّ ذلك من الحلال مصدره، والى الحلال مورده، فهو خير أجرا، وخير عقبى.
والمهم أيضا أن لا نتعدى على حقوق الآخرين، وأن لا نحقّرهم، فقد جاء رجل الى الصادق (ع) وقال له: إنني آكل الطعام الطيّب، وأشمّ الرائحة الطيّبة، وأركب الدابّة الفارهة، ويتبعني الغلام، فترى في هذا شيئا من
التجبر، فلا أفعله ؟.
فأطرق أبو عبد الله (ع)، ثم قال: إنما الجبار الملعون، من غَمَصَ الناس، وجهل الحقّ.
فقال الرجل: أما الحقّ فلا أجهله، والغمص لا أدري ما هو.
فقال (ع): من حقّر الناس، وتجبّر عليهم، فذلك الجبار.
وعن الإمام (ع) قال:” لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ” فقال رجل: إنّا نلبس الثوب الحسن، فيدخلنا العجب ، فقال (ع):” إنما ذلك فيما بينه وبين الله عز وجل “.
والخلاصة :
إن التنعم بمتاع الدنيا، ليس محرما، وإنما إضمار نية التعالي على الآخرين، والتحقير لهم، وهدر حقوقهم هو المحرم.
تحريم حب الدنيا المحرمة :
وذكر أهل الأخلاق، ومن كان له خبرة بفن تزكية النفس وتهذيبها، تحريم حبّ الدنيا المحرمة ووجوب بغضها… إنما هي أيام قصيرة نعيشها، وتعقبها رحلة طويلة، وعقبات وبيلة.
فكلّ يوم تعترضنا أصناف من المحرمات التي ينبغي الهرب منها…. إذْ إن هذا الهرب لا يكون بالشوق ولا بالتمني، بل هو بالبغض وجعل حاجز نفسي بيننا وبين أيّ حـرام قد نصادفـه ، فننظر الـى مــا يظهر جميلا من المحرّمـات، وكأنه قد غمس بالقاذورات، واختلط بالأوساخ حتى لا تشتهيه أنفسنا… وبذلك نكون قد وضعنا حاجزا بيننا وبين الحرام… ومن هنا قال أهل الحق والدارية في تهذيب النفوس: بتحريم حبّ الدنيا المحرمة ووجوب بغضها.
ونتذكر هنا مولانا ومقتدانا عليا (ع) عندما جاءه رجل مشبوه، في حاجة يريدها منه، وأراد أن يقدّم بين يدي مسألته قالبا من الحلوى، مزينا بالقطر والسكر…ولكنّ الأمير (ع)، وبلحاظ الهدف من هذه الرشوة،
لم ير هذا المنظر الجميل، بل رأى فيه سمّ الحية وقيأها… حيث قال (ع) في نهج البلاغة:
“….وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شَنئتها، كأنما عجنت بريق حيّة أو قيئها…”.
فسلام الله عليه، وقد رأى أجمل المناظر على أقبح صورة، وأكثرها تنفيرا للنفس الانسانية، كل ذلك لأنّ الحلال قد طلب به الحرام.
فالشيء من الدنيا، وان كان جميلا، الا أن هدفه أو طـريقـة استعمـاله تجعله قبيحا.
سئل عليّ بن الحسين (ع): أيّ الأعمال أفضل؟ قال: ما من عمل بعد معرفة الله، ومعرفة رسول الله (ص)، أفضل من بغض الدنيا، فإنّ لذلك شعبا كثيرة، وللمعاصي شعب، فأول ما عصي الله به الكبر (الى أن قال ): ثم الحرص ثم الحسد، وهي معصية ابن آدم، حيث حسد أخاه فقتله، فتشعب من ذلك حبّ النساء، وحبّ الدنيا، وحبّ الرياسة وحب الراحة، وحب الكلام، وحب العلو والثروة، فصرن سبع خصال، فاجتمعن كلُّهن في حب الدنيا، فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك: حب الدنيا رأس كلّ خطيئة، والدنيا دنياءان: دنيا بلاغ ودنيا ملعونة.
وورد في مناجاة موسى على نبينا وآله وعليه السلام: انّ الدنيا دار عقوبة، عاقبتُ فيها آدم عند خطيئته، وجعلتُها ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لي، يا موسى انّ عبادي الصالحين، زهدوا في الدنيا بقدر علمهم بي، وسائر الخلق رغبوا فيها بقدر جهلهم، وما من أحد عظّمها فقرّت عينه بها، ولم يحقّرها أحد الا إنتفع بها.
وجاء عن الصادق (ع) قوله:” من زهد في الدنيا، أثبت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وبصره عيوب الدنيا: داءهـا ودواءهــا، وأخرجه منهـا سـالمـا الى دار السلام “.